غزوة ذي قرد
ثم أغار بعد قدومه المدينة بليال عيينه بن حصن في بني عبد الله بن غطفان ، على لقاح النبي صلى الله عليه و سلم التي بالغابة فاستاقها و قتل راعيها ، و هو رجل من غفار ، و أخذوا امرأته . فكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي رضي الله عنه ، ثم انبعث في طلبهم ماشياً و كان لا يسبق ، فجعل يرميهم بالنبل و يقول : خذها أنا ابن الأكوع و اليوم يوم الرضع يعني اللئام ، واسترجع عامة ما كان في أيديهم .
و لما وقع الصريخ في المدينة خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في جماعة من الفرسان ، فلحقوا سلمة بن الأكوع ، و استرجعوا اللقاح ، و بلغ النبي صلى الله عليه و سلم ماءً يقال له ذو قرد ، فنحر لقحة مما استرجع ، و أقام هناك يوماً و ليلة ، ثم رجع إلى المدينة .
و قتل في هذه الغزوة الأخرم ، و هو محرز بن نضلة رضي الله عنه ، قتله عبد الرحمن بن عيينة ، و تحول على فرسه ، فحمل على عبد الرحمن أبو قتادة فقتله ، و استرجع الفرس ، و كانت لمحمود بن مسلمة و أقبلت المرأة المأسورة على ناقة لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قد نذرت : إن الله أنجاها عليها لتنحرنها ، " فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بئس ما جزتها ، لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، و لفي معصية " و أخذ ناقته . و قد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع في هذه القصة ، قال : فرجعنا إلى المدينة ، فلم نلبث إلا ثلاث ليال ، حتى خرجنا إلى خيبر ، و لعل هذا هو الصحيح ، و الله تعالى أعلم .
غزوة بني المصطلق
و غزا صلى الله عليه و سلم بني المصطلق من خزاعة في شعبان من السنة السادسة ، و قيل : كانت في شعبان سنة خمس ، و الأول أصح و هو قول ابن إسحاق و غيره .
و استعمل على المدينة أبا ذر ، و قيل : نميلة بن عبد الله الليثي ، فأغار عليهم وهم غارون على ماء لهم يسمى المريسيع ، و هو من ناحية قديد إلى الساحل ، فقتل من قتل منهم ، و سبى النساء و الذرية ، و كان شعار المسلمين يومئذ : أمت أمت .
و كان من السبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ملك بني المصطلق ، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس ، فكاتبها ، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و تزوجها ، فصارت أم المؤمنين ، فأعتق المسلمون بسبب ذلك مائة بيت من بني المصطلق قد أسلموا .
و في مرجعه صلى الله عليه و سلم قال : الخبيث عبد الله بن أبي بن سلول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، يعرض برسول الله صلى الله عليه و سلم ، فبلغها زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و جاء عبد الله بن أبي معتذراً و يحلف ما قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أنزل الله عز و جل تصديق زيد بن أرقم في سورة المنافقين .
و كان في هذه الغزوة من الحوادث قصة الإفك الذي افتراه عبد الله بن أبي هذا الخبيث و أصحابه ، و ذلك أن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها كانت قد خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه السفرة ، وكانت تحمل في هودج ، فنزلوا بعض المنازل ثم أرادوا أن يرتحلوا أول النهار فذهبت إلى المتبرز ، ثم رجعت فإذا هي فاقدة عقداً لأختها أسماء كانت أعارتها إياه ، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي كانت فيه ، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون بها فحملوا الهودج ، حملة رجل واحد ، و ليس فيه أحد ، فرحلوه على البعير و لم يستنكروا خفته لتساعدهم عليه ، و لأن عائشة رضي الله عنها كانت في ذلك الوقت لم تحمل اللحم ، بل كانت طفلة في سن أربع عشرة سنة . فلما رجعت وقد أصابت العقد لم تر بالمنزل أحداً ، فجلست في المنزل و قالت : إنهم سيفقدونها فيرجعون إليها ، و الله غالب على أمره و له الحكم فيما يشاء . و أخذتها سنة من النوم فلم تستيقظ إلا بترجيع صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني ، و كان قد عرس في أخريات القوم ، لأنه كان شديد النوم كما جاء ذلك عنه في رواية أبي داود ، فلما رأى أم المؤمنين قال : إنا لله و إنا إليه راجعون ، زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟! ثم أناخ بعيره فقربه إليها ، فركبته ، ولم يكلمها كلمة واحدة ، ولم تسمع منه إلا ترجيعه ، ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة .
فلما رأى ذلك الناس تكلم المنافقون بما الله مجازيهم به ، و جعل عبد الله بن أبي الخبيث مع ما تقدم له من الخزي في هذه الغزوة يتكلم في ذلك و يستحكيه ، و يظهره و يشيعه و يبديه . و كان الأمر في ذلك كما هو مطول في الصحيحين من حديث الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص الليثي ، و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، كلهم عن عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سماوات مما اتهمها به أهل الإفك في هذه الغزوة في قوله تعالى : " إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم " الآيات . فلما أنزل الله تعالى ذلك و كان بعد قدومهم من هذه الغزوة بأكثر من شهر . جلد الذين تكلموا في الإفك ، و كان ممن جلد مسطح بن أثاثة ، و حمنة بنت جحش .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك صعد على المنبر فخطب المسلمين واستعذر من عبد الله بن أبي و أصحابه ، " فقال : من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ؟ و الله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، و ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، و ما يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال : يا رسول الله ، أنا أعذرك منه ، فإن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة فقال كذبت لعمر الله لا تقتله و لا تستطيع قتله ، و لو كان من رهطك لما أحببت أن يقتل . فقال أسيد بن الحضير : و الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين فتثاور الحيان حتى كادوا يقتتلون ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخفضهم و يسكنهم حتى سكنوا .. الحديث .
هكذا وقع في الصحيحين أن المقاول لسعد بن عبادة هو سعد بن معاذ ، و هذا من المشكلات التي أشكلت على كثير من أهل العلم بالمغازي ، فإن سعد بن معاذ لا يختلف أحد منهم أنه مات إثر قريظة ، وقد كانت عقب الخندق ، وهي سنة خمس على الصحيح . ثم حديث الإفك لا يشك أنه في غزوة بني المصطلق هذه ، وهي غزوة المريسيع . وقال الزهري : في غزوة المريسيع . و قد اختلف الناس في الجواب عن هذا ، فقال موسى بن عقبة فيما حكاه البخاري عنه : إن غزوة المريسيع كانت في سنة أربع ، وهذا خلاف الجمهور ، ثم في الحديث ما ينفي ما قال ، لأنها قالت : و ذلك بعد ما أنزل الحجاب ، و لا خلاف أنه نزل صبيحة دخوله صلى الله عليه و سلم بزينب بنت جحش ، وقد سأل صلى الله عليه و سلم زينب عن شأن عائشة في ذلك ، فقالت : أحمي سمعي و بصري . قالت عائشة : و هي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم . و قد ذكر أهل التواريخ أن تزويجه بها كان في ذي القعدة في سنة خمس فبطل ما كان و لم ينجل الإشكال . و أما الإمام محمد بن إسحاق بن يسار فقال : إن غزوة بني المصطلق كانت في سنة ست ، و ذكر فيها حديث الإفك ، إلا أنه قال : عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة ، فذكر الحديث . قال : فقام أسيد بن الحضير فقال : أنا أعذرك منه و لم يذكر سعد بن معاذ . قال أبو محمد بن حزم : و هذا الصحيح الذي لاشك فيه ، و ذلك عندنا و هم .. و بسط الكلام في ذلك مع اعترافه بأن ذكر سعد جاء من طرق صحاح .
قلت : و هو كما قال إن شاء الله . و قد وقع من هذا النمط في الحديث مما لا يغير حكماً أحاديث ذوات عدد ، وقد نبه الناس على أكثرها ، و قد حاول بعضهم أجوبة لها فتعسف ، و الله سبحانه و تعالى أعلم .