الشام
اللقاء الحضاري في الشام خلال الحروب الصليبية
لم يكن الامتزاج الحضاري بين المسيحية والإسلام في الشام من حيث العمق والاستمرار على نفس المستوى الذي كان عليه في الأندلس وصقلية. وقد يرجع ذلك إلى أن المملكة اللاتينية في القدس كانت تفتقر إلى مركز علمي كبير للمعارف الإسلامية التي يستطيع المسيحيون أن يستمدوها منه على غرار طليطلة وبلرمو.
ولكن على الرغم من ذلك فإن بعض العلماء والتجار ومحاربي الحروب الصليبية ، استطاعوا عن طريق المشاهدة العينية والتفاهم والاندماج، أن ينقلوا بعض المعارف عن الزراعة والملاحة والصناعة.. الخ من شرق البحر المتوسط إلى أوروبا.
وأهم ما نلاحظه في هذا الصدد هو أن العلاقات التي سادت عصر الحروب الصليبية لم تكن كلها علاقات عدائية قائمة على الحرب والقتال بين المسلمين والصليبيين، بل قامت بينهم أيضاً علاقات ود وصداقة، ولا سيما في فترات الهدنة والسلام. ومما ساعد على توثيق هذه العلاقات، أن المستعمرات الصليبية في الشام كانت تعيش وسط إمارات إسلامية داخل الشام مثل حلب ودمشق وحمص وحماة إلى جانب القلاع والحصون مثل حصن شيزر الذي ما زالت أطلاله باقية على نهر العاصي في شمال الشام.
لهذا، كان لزاماً، على الصليبيين، لكي يحتفظوا بمستعمراتهم في الشرق العربي، أن يعتمدوا على سكان البلاد الأصليين من المسلمين والمسيحيين في الأعمال المحلية مثل زراعة الأرض وبناء الحصون والكنائس وترميمها، إلى غير ذلك من الأعمال الصناعية والمعاملات التجارية المختلفة.
حقيقة أن هذه الإمارات الصليبية كانت تتلقى من الغرب أموالا ومساعدات مختلفة، إلا أن هذه المساعدات كانت غير كافية ولا تفيدهم كثيراً على مر السنين. لهذا كان يتحتم على الصليبيين الاعتماد على أهالي المنطقة من الصناع والفلاحين وغيرهم. ومن هنا نشأت علاقات سلمية بين المسلمين والمسيحيين وأخذ كل فريق يعمل على فهم الفريق الآخر والتعرف عليه.
وإذا تتبعنا بحض المؤشرات الحضارية التي تأثر بها الفرنج خلال الحروب الصليبية، نجد أنها كثيرة ومتنوعة:-
فمن الناحية الاجتماعية، نجد أن الصليبيين، نظراً لقلة عدد النساء الفرنجيات اللاتي صحبن المقاتلين، أقبلوا على الزواج من المواطنات المسيحيات من الموارنة والأرمن وبعض الأسيرات المسلمات. وقد نشأ عن هذه الزيجات جيل من المولدين عرفوا باسم بولاني Pullani وقد غلب على هؤلاء في طبائعهم وعاداتهم الطابع الشرقي. ولم يتردد الصليبيون مع مرور الزمن في الاستعانة بهؤلاء المولدين في تشكيل فرق من الخيالة الخفيفة عرفت باسم التركبوليTurcopoles. كذلك أخذ الصليبيون يكيفون حياتهم في الشرق حسب مقتضيات الحال والمناخ، فارتدوا الملابس الشرقية الفضفاضة واسعة الأكمام، وأطلقوا لحاهم، وجلسوا: على الزرابي ، وأكلوا الأطعمة الشرقية، وسكنوا القصور والبيوت ذات الطراز الشرقي حيث الأحواش أو الأفنية الداخلية التي تتوسطها النافورات والورود والأزهار، وتحيط بها الغرف والقاعات ذات المشربيات المحلاة بالزخارف المخرمة المفرغة المنوعة. كذلك استخدموا في ولائمهم وحفلاتهم الراقصات والمهـرجين كما يفعل المسلمون.
أما من الناحية الاقتصادية، فنجد أن الصليبيين، استفادوا من المشرق الإسلامي استفادة كبيرة لدرجة أن بعض المؤرخين اعتبر الحركة الصليبية حروبا اقتصادية. ففي ميدان الزراعة نقل الصليبيون عن المسلمين إلى أوروبا، زراعة بعض أنواع النباتات والثمار والفواكه الني لم يعرفوها من قبل وسموها بأسمائها العربية مثل السكر والأزر والليمون والقطن و لسمسم.. الخ.
وفي ميدان الصناعة، عرفوا كثيرا من المصنوعات الإسلامية ونقلوها إلى بلادهم مثل المنسوجات الحريرية الموشاة التي اشتهرت بها الشام وتعرف باسم البروكار Brocare ، والأقمشة القطنية التي كانت تصنع بدمشق سيميت باسمها "الدمشقيات Damask " وأقمشة الموصل، Musilin ومنسوجات العتابية في بغداد "Taois"، هذا إلى جانب صناعة الورق والصابون والخزف والزجاج والحلي والعقاقير... الخ.
أما التحارة ، فقد انتعشت بين الشرق والغرب بشكل لم يعرف من قبل. فكانت قوافل المسلمين ترد إلى الموانىء الصليبية على ساحل الشاام نحمل سلع الشرق كاللؤلؤ والأحجار الكريمة والعاج والعطور والبهار (SPICES)، وكان على تجار المسلمين عند دخولهم ولقد أثار هذا الاستعمار الصليبي البغيض غضب المسلمين وأيقظهم من غفوتهم، فقاموا بزعامة قادة مخلصين منهم لرد هذا العدوان، ودخلوا مع الصليبيين في صراع طويل استغرق ما يزيد على المائتي عام حتى تمكنوا من طردهم من ديارهم.
كانت بداية الصحوة الإسلامية على يد القائد التركي عماد الدين زنكي صاحب الموصل وحلب الذي حرر الرها من براثنهم سنة 538 هـ/ 1144م وفتح الطريق بين شمال العراق والشام. ثم جاء ابنه نور الدين محمود صاحب حلب (ت 569 هـ/1174 م) فعمل على توحيد الجبهة الإسلامية بضم دمشق ومصر في وحدة شامية- مصرية، أحاطت بمملكة بيت المقدس من الشمال والجنوب تمهيدا للقضاء عليها. وأخيرا يأتي القائد ومتمم الرسالة الملك الناصر يوسف صلاح الدين (565 هـ/589 هـ/- 169 1- 1193 م ) فيحقق هذا الهدف المنشود بالانتصار على الصليبيين في حطين (583 هـ/187 1 م) ودخول ، بيت المقدس في ليلة الإسراء والمعراج 27 (-جب من نفس السنة. ولم يحاول صلاح الدين التمثيل بأعدائه كما فعلو (هم من قبل بالمسلمين وقت دخلوهم المدينة، بل اكتفى بإعادة المساجد التي حولت إلى كنائس ولا سيما المسجد الأقصى، كما سمح لهم بمغادرة المدينة بأموالهم وأمتعتهم ، وسمح لنصارى المشرق بالبقاء مع المسلمين. وكل هذا يدل على أن صلاح الدين لم يحارب الديانة المسيحية بل حارب السياسة الأوروبية الاستعمارية. لقد كان صلاح الدين ينشد تحقيق السلام الذي عبر عنه في إحدى رسائله لأخيه تورا نشاه باليمن بقوله: "إن بلاد الشام، لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما". ولكن الاستعمار الأوروبي لم يشأ أن يحقق له هذا السلام الذي ينشده بسبب الانتصارات ، التي أحرزها على الصليبيين، فجاؤوه هذه المرة بقضهم وقضيضهم، بجيوشهم وأساطيلهم. يقودهم كبار ملوكهم أمثال فردريك بربروسا امبراطور ألمانيا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وفيليب أوجست ملك فرنسا، فاستولوا على سواحل الشام بغية الوصول منها إلى بيت المقدس.
لقد دامت هذه الحملة المعروفة بالصليبية الثالثة مدة ثلاث سنوات (585- 588 هـ/189 1- 1193 م)، ولكنها انتهت بالفشل الذريع بعد غم سق الامبراطور الألماني، وعودة الملك الفرنسي، وفشل الملك الإنجليزي في استعادة بيت المقدس وعودته إلى بلاده خائب السعي بعد عقد صلح الرملة مع صلاح الدين.
ثم رأى المستعمر الصليبي ، بعد فشل خطوط سير حملاته عن طريق آسيا الصغرى والشام ، ضرورة تغيير اتجاهها نحو مصر أولا ثم الوصول منها إلى بيت المقدس، اعتقادا منه بأن مصربقوتها ومواردها هي السبب في فشل مشار يعه الصليبية وأنه لا بد من حرمان الجبهة الإسلامية من هذه القاعدة الهامة، "فمن يريد قتل الثعبان فليحطم رأسه أولاً".
وهكذا تحولت الحملات الصليبية إلى مصر بقيادة جان دي بريين Jean de Brienne (سنة 615 هـ بر 1318 م)، ملك بيت المقدس،ثم بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا (647 هـ/1246 م). ولكن الحملتين منيتا بالفشل الذريع بفضل المقاومة الإسلامية من ناحية، وبسبب جهل الصليبيين بجغرافية البلاد المصرية من ناحية أخرى ، إذ كان عليهم عبور النيل بفروعه وقنواته المتعددة وقت فيضانه فحاصرتهم مياهه، وعاقتهم أوحاله، فتساقطوا صرعى وأسرى، وفي مقدمتهم ملكهم القديس لويس الذي وقع في الأسر أيضا، فكان النيل مقبرة للغزاة.
وبعد انتهاء دولة الأيوبيين، واصل خلفاؤهم سلاطين المماليك جهاد الصليبيين: فالسلطان الظاهر بيبرس (658- 676 هـ/ 0 26 1- 277 1 م) استولى على عدد كبير من قلاعهم ومدنهم مثل يافا وقيسارية في الجنوب، وأنطاكية في الشمال وتبعه السلطان المنصور قلاوون 6781- 689 هـ/ !37 1- 0 29 1 م) فاستولى على اللاذقية وطرابلس. ثم جاء بعده ابنه الأشرف خليل (689- 693 هـ/ 0 139- 1293 م) ليقضي على الإمارة الباقية من دولتهم في الشام وهي عكا (سنة 0 69 هـ/1291 م).
ولم يكتف المسلمون بطرد الصليبيين من الشام بل تعقبوا فلولهم في جزر البحر المتوسط، فاستولى، السلطان التاصرمحمد بن قلاوون على!جزيرة أرواد (سنة 3 70 هـ/2 130 م)، كما استولى السلطان الأشرف برسباي على جزيرة قبرص (سنة 839 هـ/ 1436 م). هذا إلى جانب الحملات البحرية التي شنها السلطان سيف الدين جقمق على جزيرة رودس وغيرها في شرق حوض البحر المتوسط (843-847 هـ/1440-1444 م).
تلك الموانىء أن يدفعوا ضريبة على بضائعهم مقدارها قيراط على كل سلعة ثمنها دينار واحد (الدينار 34 قيراطاً). وكانوا يعاملون في تلك الموانىء معاملة طيبة، ولهم فيها خانات أو فنادق ينزلون فيها ببضائعهم ودوابهم. ومن الطريف في هذا الصدد، أن حركة التجارة بين الجانبين ظلت مستمرة ولم تتوقف حتى في أوقات الحروب بينهم، وقد نص على ذلك الرحالة المعاصر. ابن جبير عند قوله "ختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الفرنج غير منقطع، وأهل الحرب مشتغلون في حربهم، أما الرعايا والتجار فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحول سلماً أو حرباً".
وكان من نتائج ازدياد النشاط التجاري بين الشرق والغرب، أن ظهرت المدن التجارية في أنحاء أوروبا ، وهي ظاهرة جديدة أدت إلى اجتذاب الفلاحين إلى المدن وانهيار النظام الإقطاعي.. كذلك ظهر نظام المصارف في تلك المدن التجارية، وكثيراً ما عاونت هذه البنوك الطبقات الحاكمة بالقروض المالية وتحالفت معها ضد رجال الإقطاع. وقد نتج عن هذه المعاملات المالية إصدار صرف يعرف بالصك أو الشيك وكذلك ، السفاتج جمع بستاجة بمعنى الحوالة، وهي أنظمة مشرقية الأصل.
ومن الناحية المعمارية العسكرية، نلاحظ أن العمارة الإسلامية أضافت إلى التراث الفني العالمي نظماً لم تكن معروفة من قبل مما جعل لها في العصور الإسلامية طابعا مميزا. ومن أمثلة ذلك أشكال العقود، وأنظمة المساجد والمدارس والقصور والحمامات والأضرحة. كذلك ابتكر المسلمون المداخل ذات المرافق أو المنعطفات المتعددة في المدن والحصون الإسلامية. والغرض من ذلك التحكم في العدو المهاجم من باب الحصن عبر هذه الممرات الضيقة الطويلة الملتوية. ويلاحظ أن الرومان والبيزنطيين لم يستخدموا هذا الأسلوب في حصونهم، بل استخدموا المدخل المستقيم الذي يؤدي مباشرة إلى فناء الحصن. ومن أمثلة هذه المداخل عند المسلمين مدينة بغداد التي كانت أبواب أسوارها الخارجية لا تقع في سمت واحد مع أبواب أسوارها الداخلية، بل مزورة عنها ويفصل بينهما دهاليز ومنعطفات ملتوية لأغراض دفاعية، ولذا أطلق على بغداد اسم "الزوراء".
وقد طبق هذا الأسلوب الحربي بشكل أفضل في قلعة الجبل (المقطم) بالقاهرة في عهد صلاح الدين الأيوبي، في القرن السادس الهجري، وفي قلعة حلب في القرن السابع الهجري، وفي قلاع المرابطين والموحدين بالمغرب.
ولقد انعكس هذا الأسلوب المعماري العسكري على الحصون والقلاع التي شيدها الصليبيون في الشام أو في أوروبا بعد ذلك. مثال ذلك حصن الأكراد Crac de chevalliero في شمال شرق طرابلس الذي أعاد فرسان الاسبتارية شييد قلعته على مثل هذا النظام الرائع الذي مازالت أثاره باقية إلى اليوم. كذلك ابتكر المسلمون نظام "السقاطة" التي انتقلت إلى الغرب باسم ماتشيكولي Machicoli وهي عبارة عن شرفة صغيرة من الحجارة أو الخشب تبرز من الحائط ولها فتحات من أسفل، وتقام ف حق أسوار الحصن، فيستطيع المدافعون هـ ن خلال هذه الفتحات إلقاء المقذوفات أو السائل الحار أو العذرة على المهاجمين، وقد استعار الصليبيون نظام هذه السقاطات، وطبقوه في قلاعهم في شمال الشام وفي أوروبا. ومن أمثلة ذلك قلعة جابار التي شيدها رييتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، على نهر الخشن عقب عودته من الأراضي المقدسة.
أما من ناحية التأثير الثقافي، فإنه يبدأ منذ أن أخذ كل فريق يتعرف على الفريق الآخر-، ويحاول أن يكنب عنه حاضره وماضيه. و(قد أنجب عصر الحروب الصليبية نخبة من المؤرخين المعاصرين شرقيين وغربيين، كل يمثل وجهة نظره في تلك الحروب، فتوفرت من هذه الحقبة الصليبية مادة خصبة لم يتوفر مثلها من قبل.
وقد عكف المؤرخون الأوروبيون في العصر الحديث على جمع هذه المادة الوفيرة في موسوعة علمية باسم "مجموعة مؤزخي الحروب الصليبية"RECUEIL DES HISTORIRNS CROISADES (PARIS 1841 - 1906 ) ( 1841 ـ 1906 ) ، وهي تضم ما كتبه المؤرخون المشارقة في خمسة مجلدات تحت عنوان:Historiens Orientaux وما كتبه المؤرخون الغربيون في خمسة مجلدات أيضاً تحت عنوان: Historiens Orientaux ومن بين كتاب المسلمين الذين أمدونا بمعلومات قيمة عن العلاقات بين المسلمين والصليبيين نذكر الرحالة الأندلسي السالف الذكر محمد بن جبير الذي زار الشام في أواخر القرن السادس الهجري (12 م) ووصف التعاون المشترك بين المسلمين والمسيحيين في الامارات الصليبية، وقال. ان حالة المسلمين هناك كانت أحسن من. حالة اخوانهم الذين يعملون قي الإقطاعات الإسلامية، وأن الصليبيين تعمدوا اصطناع المسلمين بحسن المعاملة كي يحببوا لهم العمل معهم. ولا شك أن ابن جرو صادق في كلامه، لأن الصليبيين أدركوا أن استمرار بقائهم في إماراتهم يتوقف على التعاون مع أهالي المنطقة والذوبان فيها وقد مات ابن جبير في مدينة الإسكندرية ودفن بها (613 هـ). ويذهب البعض أن موضع دفنه مقام سيدي جابر الحالي .
وهناك كاتب آخر عاصر ابن جبير وأمدنا بمعلومات هامة عن علاقات المسلمين بالصليبيين بالشام، وهو الأمير الشاعر أسامة بن منقذ (ت 583 هـ/1188م) أحد فرسان بني منقذ أصحاب حصن شيزر الذي لازالت أطلاله باقية باسم سيجر على بعد خمسة عشر أميال إلى الشمال من حماة على الضفة الغربية لنهر العاصي. وبحكم جواره للصليبيين، كان لأسامة معهم مشاكل وحروب وصداقات ونوادر أوردها في كتابه على شكل مذكرات خاصة تحت عنوان "كتاب الاعتبار" وتتضمن صورا مقارنة بين عادات المسلمين والفرنجة، شاهدها أو عاينها بنفسه. لقد كان أسامة موضع إطراء معاصريه وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي الذي كان معجبا بشجاعته وشعره ويحتفظ بديوان من شعره.
أما المؤرخ الحموي جمال الديون بن واصل (ت 691 هـ/1397 م)، فقد أورد في كتابه "مفرج الكروب في أخبار بني أيوب " بعض المعلومات الهامة عن لويس التاسع ملك فرنسا أثناء حملته على مصر، وعن الامبراطور منفرد بن فردريك الثاني حينما قابله كسفير للسلطان الظاهر بيبرس في مدينة بولتا الإيطالية.
وهناك مؤرخ حموي آخر اسمه محمد بن علي بن نظيف قدم لنا في كتابه "التاريخ المنصوري ، صوراً لبعض الخطابات المرسلة من الامبراطور فردريك الثاني إلى الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ قائد جيوش الدولة الأيوبية يروي له فيها بعض أخبار دولته وما جرى فيها من أحداث عقب رجوعه من حملته في فلسطين (636 هـ/1239 م).
أما المؤرخون الأوروبيون الذين وصفوا حروبهم ني المشرق وكتبوا عن المسلمين وبلادهم فهم عديدون أيضاً نذكر منهم وليم الصوري William of thyre (1130- 184 أم) الذي ولد في بيت المقدس من أبوين فرنسيين وتعلم في فلسطين العربية واليونانية ثم اتصل بالملك عموري الأول وصار مربيا لأولاده، وظل يتدرج في المناصب حتى صار كبيرا لأساقفة صورة. ومن أهم مؤلفاته كتاب قي تاريخ الحروب الصليبية منذ قيامها سنة 1096 م حتى أخر أيامه 1184م بعنوان "تاريخ الأعمال التي تمت في بلاد ما وراء البحر" Histonia reum in partibus transmarinis gestarum، والكتاب يتضمن معلومات مفيدة عن مصر وأحوالها الداخلية في أواخر العصر الفاطمي، وكذلك ط عن تجارتها في البحر الأحمر مع بلاد الهند".
ولا يفوتنا أخيرا أن نشير إلى المؤرخ الفرنسي دي جوانفيلDe joinville (القرن 7 هـ/13 م)، الذي، صحب الملك لويس التاسع في حملته على مصر. وأسر معه فيها ، وكتب عنه كتابا بعنوان، القديس لويس " وأورد فيه معلومات هامة عن مصر والمماليك.
وهكذا نر ى مما تقدم أن الحروب الصليبية، وإن كانت قد سفكت فيها دماء غزيرة، إلا أن هذه التضحيات قد قابلها تعويض في هذا اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب، إذ انمحت الصورة القديمة التي كانت في مخيلة الصليبيين عن المسلمين، فلم يعودوا يرونهم جنودا جبناء، أو قساة غلاظ القلوب أو كفرة عباد أوثان، بل شهدوا من حضارتهم الراقية وشجاعتهم في القتال وورعهم في الصلاة، وسماحتهم في معاملة أهل الأديان الأخرى، ما أطلق ألسنتهم بالإعجاب والتقدير. وقد صدق المؤرخ الإنجليزي هرنشو Heamshaw حينما عبر عن هذا الإعجاب بقوله: "فكما أن بلعام خرج ليدعو على بني إسرائيل، فإذا به يدعو لهم، فكذلك الصليبيون خرجوا من ديارهم لقتال السلمين، فإذا هم جلوس عند أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة. لقد بهت أشباه، الهمج من مقاتلة الصليبيين عندما رأوا المسلمين على حضارة دنيوية ترجح وحضارتهم رجحانا لا تصح معه المقارنة بينهما".
وعلى الجانب الآخر من العالم الإسلامي مشرقا، فقد ربطت العلاقات الثقافية والتجارية بين المسلمين وأوروبا، انعكست على التواصل الحضاري بين الحضارتين الإسلامية والغربية، إذ كانت القسطنطينية نقطة الالتقاء والمعبر لذ اك التواصل والتفاعل، فحين كان المسلمون يواصلون ضغطهم على القسطنطينية باعتبارها مفتاح الطريق إلى أوروبا الشرقية، هجر قسم من علماء بيزنطة، المدينة مزودين بكتابهم الكلاسيكية وبحصيلتهم الثقافية نتيجة الاتصالات الثقافية مع العالم الإسلامي، وخاصة" مع الأندلس وبلاد الشام وانساحوا في أوروبا، وعلى الأخص منطقة البحر المتوسط، فأسهموا في التعجيل بالنهضة الأوروبية، وعلى سبيل المثال لا الحصر أن العالم البيزنطيGemston pletton أسس الأكاديمية الأفلاطونية في مدينة فلورنس على النسق الإسلامي، وصنفه كتابي القانون، وفلسفة أفلاطون وأرسطو.
والعالم البيزنطي مانويل خرايسولوراس M. Chreysolaras حاضر في جامعتي فلورنس وملان و بافيا واعتبر أمير الفصاحة والفلسفة اليونا نية، والعالم البيزنطي بيصاريون النيقي وميلانBessarion of Nicaea ، ساهم في النهضة الإيطالية بشعره وبما جمعه من مخطوطات الشرق، شكلت أول مكتبة لمدينة البندقية ثم تحولت فيما بعد نواة لمكتبة القديس مارك.
وحين نجح المسلمون العثمانيون في فتح القسطنطينية، وغدت إسلامبول بؤرة الإسلام انتقل العديد من الصناع والنجارين والبنائين ومهرة عمال البناء والزخرف وخبراء صناعة السجاد والجلود بأنواعها إضافة إلى العديد من العلماء والأدباء والشعراء والتجار إلى المدينة الجديدة، وأبدعوا في العاصمة زخرفة وتنميقا، وأقيمت فيها عشرات المؤسسات العلمية، كالمد ارس والمساجد والجوامع والزوايا والتكايا والبيمارستانات، ومن ثم وفد إليها أبناء الشعوب الأوروبية للدراسة أو الزيإرة أو التجارة، فأفادوا مما تعلموه وما شاهدوه. ونقلوه إلى بلدانهم. ويبدو أن العلاقات التجارية قد أصابها بعض الارتباك بعد سنة 857 هـ/453 ام، على أثر فتح القسطنطينية، وانهارت بعض الطرق البرية والبحرية في آسيا وأوروبا عبر البحر الأسود والمضائق ، ويلاحظ بأن هذا الارتباك كان مقرونا بمدى نجاح العثمانيين في تثبيت الإسلام في مناطقه لجديدة، إذ أن بواعث الفتح واستمرار الأعمال الحربية حالت دون استمرار التجارة ولكن بصورة ؤقتة، غير أن أوروبا عوضت ذلك بزيادة وتقوية اتصالاتها التجارية مع الموانىء المملوكية في مصر النشام، فشهدت علاقات الجمهورية الإيطالية ، جنوة وبيزا والبندقية تقدما ملحوظا، حتى إذا ما استقرت أوضاع الدولة العثمانية عاودت التجارة إلى نشاطها عبر الخط الواصل من الصين والهند والخليج شمالا وغربا إلى حلب وآسيا الصغرى ليلتقي مع القوافل القادمة بر اً من وسط آسيا، ويتحد معها بالقسطنطيتية ثم إلى أوروبا، وكان هذا الطريق يعتبر الطريق الاحتياطي للتجارة الشرقية.
وثمة طريق بري من وسط آسيا والهند عبر جبالها وممراتها إلى نهر الأثيل ، حيث يتقابل مع القوافل الوافدة من الصين، !". ويسيران معا حتى بخاري إلى موانىء البحر الأسود وأوروبا، ومنه فروع جانبية إلى حلب وساحل البحر المتوسط.
لقد حمل تجار الشرق إلى أوروبا الشرقية عبر القسطنطينية وأدرنة ، الأنسجة المطرزة والسجاد والجلود والفراء والحنطة والشموع والأحجار الكريمة والصابون وغيرها، ولما كانت المراكز التجارية هي بالضرورة مراكز حضارية " يتم منها التبادل الثقافي إلى جانب التبادل التجاري، وكانت "اسلامبول " بوابة أوروبا الشرقية على العالم الإسلامي، عملت على نقل العناصر الحضارية تواصلا وتفاعلا وتمازجا وتلاحقا، فأثرت بصورة ملموسة ني تكوين الفكر الأوروبي، ومهدت الطريق لعوامل النهضة الأوروبية.