الشام
كانت بلاد الشام هي منطقة اللقاء الثالث بين الشرق والغرب في العصر الوسيط إبان الحروب الصليبية وإذا ذكرنا الحروب الصلبية، فينبغي أن نذكر في الوقت نفسه أن الرسالات السماوية هي في الأساس رسالات محبة وأخاء وسلام بين البشر جميعاً .
لقد كانت التحولات الدينية في أوروبا سببا رئيسيا لقيام الحروب الصليبية، ذلك أن كنيسة روما بعد اعتناق الفرنجة للنصرانية غدت ندا للكرسي البطريركي في القسطنطينية، واختصت كنيسة روما دون غيرها بلقب البابا، ولعبت البابوية دورا مهما في إقامة دولة الفرنجة الكارو لنجية كمنافسة لإمبراطورية بيزنطة، ومن ثم أخذت البابوية تطمح إلى توحيد كنيستي الشرق والغرب تحت نفوذها،ولا حت الفرصة حين استنجد ميخائيل السابع بارابنيسز " Michael vll parapinaces" ملك بيزنطة 1 7 0 1- 78 0 1 م، بالبابا جريجوري السابع " Gregory vll"73 0 1- 85 0 1 م، يدعوه لإرسال حملة لإنقاذ آسيا الصغرى من الترك، فأسرع جريجوري السابع لتأليب ملوك الكاثوليك وأمرائهم، غير أن عجلة الصراع بين المسلمين والفرنجة قد توقفت بسبب النزاع بين الكنيسة وملوك أوروبا، حتى إذا ما عادت للبابوية قوتها بعد موت هنري الرابع " Henri iv"، تطلعت البابوية إلى تأسيس حكومة في الشرق تجمع بين السلطتين الزمنية والدينية، ولذا كانت الحروب الصليبية من تدبير البابوية، حيث اتخذ البابا أربانوس الثاني " urbanus ll. 1088 م ـ 1099 م ، المعروف بتعصبه ضد المسلمين، عندما كان راهبا لدير كلوني، والذي غذى حرب المسلمين في الأندلس، من شكوى الحجاج إلى بيت المقدس، ذريعة لحرب المسلمين، وكان هذا البابا يرى بأن وظيفة البابوية الأساسية هي القيادة العليا للحرب المقدسة، ثم أن الحروب الصليبية هي بمثابة سياسة البابوية الخارجية، فهي التي تديرها وتتحرك وفقها، والبابوات هم الذين نظموا الحرب ووجهوها.
ولا شك أن هناك عوامل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية، أقوى من العامل الديني، وراء هذه الحركة الصليبية، ولكن الزعماء والقادة عمدوا إخفاءها وراء هذا الستار الديني البراق لإثارة الشعوب وجذب الأنصار.
ثم توالت الحملات الصليبية الأوروبية على الشام ومصر منذ أواخر القرن الخامس الهجري (11 م)، واستطاعت الحملة الأولى أن تنشب أظفارها في الشرق العربي، وتؤسس أربع إمارات صليبية: الأولى في إنطاكية التي تتحكم في شمال الشام، والثانية في الرها التي فصلت العراق عن الشام وهددت بغداد قاعدة الخلافة العباسية، والثالثة في طرابلس المنفذ الاستراتيجي الهام على ساحل البحر المتوسط، والرابعة في مدينة القدس حيث قامت مملكة بيت المقدس سنة 492 هـ/1099 م أقوى الإمارات نفوذاً.
ولقد اثار هذا الاستعمار الصليبي البغيض غضب المسلمين وأيقظهم من غفوتهم ، فقاموا بزعامة قادة مخلصين منهم لرد هذا العدوان ودخلوا مع الصليبين فى صراع طويل استغرق مايزيد على المائتي عام حتى تمكنوا من طردهم من ديارهم .
كانت بداية الصحوة الاسلامية على يد القائد التركي عماد الدين زنكي صاحب الموصل وحلب الذى حرر الرها من براثنهم سنة 538 ÷ت / 1144 م وفتح الطريق بين شمال العراق والشام ثم جاء ابنه نور الدين محمود صاحب حلب ( ت 596 هـ /1174 م ) فعمل على توحيد الجبهة الاسلامية بضم دمشق ومصر فى وحدة شامية - مصرية ، أحاطت بمملكة بيت المقدس من الشمال والجنوب تمهيدا للقضاء عليها . وأخيرا يأتي القائد ومتم الرسالة الملك الناصر يوسف صلاح الدين ( 565 هـ / 589 هـ / = 1169 - 1193 م ) فيحقق هذا الهدف المنشود بالانتصار على الصليبين فى حطين ( 583 هـ /1187 م ) ودخول بيت المقدس فى ليلة الاسراء والمعراج 27 رجب من نفس السنة ولم يحاول صلاح الدين التمثيل باعدائه كما فعلوا هم من قبل بالمسلمين وقت دخلوهم المدينة ، بل اكتفى باعادة المساجد التى حولت الى كنائس ولا سيما المسجد الاقصى كما سمح لهم بمغادرة المدينة بأموالهم وأمتعتهم ، وسمح لنصاري المشرق بالبقاء مع المسلمين ، وكل هذا يدل على ان صلاح الدين لم يحارب الديانة المسيحية بل حارب السياسة الأوربية الاستعمارية لقد كان صلاح الدين ينشد تحقيق السلام الذى عبر عنه فى احدى رسائلة لأخيه تورانشاه باليمن بقوله : " إن بلاد الشام ، لاتسمع فيها لغوا ولا تأثيما الا قيلا سلاما سلاما " ولكن الاستعمار الاوربي لم يشأ أن يحقق السلام الذى ينشده بسبب الانتصارات الى أحرزها على الصليبين ، فجاؤوها هذه المرة بقضهم وقضيضهم بجيوشهم وأساطيلهم يقودهم كبار ملوكهم أمثال فردريك بربروسا أمبراطور المانيا ، وريتشارد قلب الاسد ملك انجلترا ، وفيليب أوجست ملك فرنسا ، فاستولوا على سواحل الشام بغيه الوصول منها الى بيت المقدس .
لقد دامت هذه الحملة المعروفة بالصليبية الثالثة مدة ثلاث سنوات ( 585 - 588 هـ /1198-1192 م ) ولكنها انتهت بالفشل الذريع بعد غرق الامبراطور الالماني ، وعودة الملك الفرنسي ، وفشل الملك الانجليزي فى استعادة بيت المقدس وعودته الى بلاده خائب السعي بعد عقد صلح الرملة مع صلاح الدين .
ثم رأي المستعمر الصليبي ، بعد فشل خطوط سير حملاته عن طريق أسيا الصغري والشام ضرورة تغيير اتجاهها نحو مصر أولا ثم الوصول منها الى بيت المقدس ، اعتقاده منه بأن مصر بقوتها ومواردها هى السبب فى فشل مشاريعة الصليبية ، وانه لابد من حرمان الجبهه الاسلامية من هذه القاعدة الهامة ، فمن يريد قتل الثعبان فليحطم راسه أولا "
وهكذا تحولت الحملات الصليبية الى مصر بقيادة جان دي بريين ( سنة 615 هـ /1218م ) ملك بيت المقدس ثم بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا ( 647 هـ /1246 م ) ولكن الحملتين منيتا بالفشل الذريع بفضل المقاومة الاسلامية من ناحية وبسبب جهل الصليبين بجغرافية البلاد المصرية من ناحية أخرى اذا كان عليهم عبور النيل بفروعة وقنواته المتعددة وقت فيضانه فحاصرتهم مياهه وعاقتهم أوحاله ، فتساقطوا صرعي وأسرى وفى مقدمتهم ملكهم القديس لويس الذى وقع فى الاسر ايضا فكان النيل مقبرة للغزاه . -
وبعد انتهاء دولة الايوبيين ، واصل خلفاؤهم سلاطين المماليك جهاد الصليبين فالسالطان الظاهر بيبرس ( 658 - 676هـ / 126- 1277م ) استولى على عدد كبير من قلاعهم ومدنهم مثل يافا وقيسارية فى الجنوب ، وانطاكية فى الشمال وتبعه السلطان المنصور قلاوون ( 678 - 689 هـ / 1279 -1290 م ) فاستولى على اللاذقية وطرابلس ثم جاء بعده ابنه الاشراف خليل ( 689 - 693 هـ / 190 - 1293 م ) ليقضي على الامارة الباقية من دولتهم فى الشام وهى عكا ( سنة 690 هـ / 1291 م ) .
ولم يكتف المسلمون بطرد الصليبين من الشام بل تعقبوا فلولهم فى جزر البحر المتوسط ، فاستولى السلطان الناصر محمد بن قلاوون على جزيرة أوراد ( سنة 702 هـ / 1302 م ) . كما استولى السلطان الاشراف برسباي على جزيرة قبرص ( سنة 829 هـ / 1426 م ) هذا الى جانب الحملات البحرية التى شنها السلطان سيف الدين جقمق على جزيرة ردوس وغيرها فى شرق حوض البحر المتوسط ( 843 - 847 هـ / 1440-1444 م ) .