حركة النقل والترجمة في أسبانيا بين الأخذ والعطاءة
إن التاريخ الأندلسي تاريخ عربي إسلامي يعتد بعروبته وعقيدته، وله شخصيته التي لم تلبث أن فرضت نفسها على المدونات والحوليات و. الملاحم الأسبانية المسيحية المعاصرة، وأثرت فيه بشكل واضح. على أن هذا العطاء الثقافي الأندلسي، كان يقابله أخذ أيضاً من الثقافة المسيحية اللاتينية واليونانية.
وقدت عرف عن الأندلسيين ولعهم الشديد بعلم التاريخ، إلى درجة أنهم كانوا يعتبرونه أنبل علم عندهم على حد قول "ابن سعيد المغربي ". لهذا أقبلوا بدافع الحاسة التاريخية إلى تلمس الأخبار وتقصي الحقائق من مختلف مظانها اللاتينية واليونانية القديمة، لمعرفة تاريخ وحضارة بلدهم الأندلس والأمم المجاورة لهم منذ أقدم العصور. ولهذا يلاحظ بشكل واضح أن الأخبار الدقيقة المفصلة التي أوردها المؤرخون والجغرافيون الأندلسيون عن الممالك المسيحية في شمال أسبانيا وما ورائها، تدل على أنهم أطلعوا على مدونات لاتينية مسيحية قديمة فقد معظمها اليوم، أو أنهم استمدوا هذه الأخبار من أهل الذمة من النصارى واليهود المقيمين في الأندلس، والعارفين بأخبار هذه الممالك المسيحية، وهو في كلـتا الحالتين أمر يدل على تأثر مؤرخينا بالثقافة اللاتينية المسيحية، فضلا عن إمكانية معرفتهم باللغة الإسبانية التي كانت شائعة بين معاصريهم من مسلمي الأندلس، كما نص على ذلك صراحة الفقيه "ابن حزم القرطبي ".
ولعل المصدر اللاتيني الأساسي الذي استمد منه المؤرخون والجغرافيون الأندلسيون معلوماتهم عن تاريخ الرومان والأمم التي حكمت أسبانيا قبل الإسلام وعن صفة شبه جزيرة ليبيريا، هو كتاب "التواريخ السبعة في الرد على الوثنيين " للراهب الروماني الأسباني " المولد والنشأة "بولس هروشيش PAULS HOROSIUS الذي عاش في أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الميلادي. ونظراً لأهمية تاريخ "هروشيش "، فقد قام بترجمته إلى العربية في عهد الخليفة، " عبد الرحمن الناصر" (300- 350 هـ)، الفقيه الأندلسي قاسم بهـن إصبع البياني "، ـ نسبة إلى بيانه من أعمال "قرطبة"- بالاشتراك مع قاضي النصارى ومترجمهم "الوليد بن الخيزران "، المعروف "بابن مغيث ". وقد استفاد المؤرخون والجغرافيون الأندلسيون من هذه الترجمة العربية.
أما عن أخبار الممالك المسيحية الأسبانية والأوروبية التي عاصرت الحكم الإسلامي في الأندلس، فهي كثيرة ومتعددة في كتابات المؤرخين والجغرافيين الأندلسيين، والتأثير الأسباني واللاتيني واضح فيها، ونجد ذلك بوضوح في روايات "العذري " و " البكري و"الأدريسي " و،" ابن حزم " و "ابن القوطية،" و "ابن حبان " و "ابن الخطيب " وغيرهم. وكل هذا يعبر عن التأثير والتأثر بين هاتين الثقافتين المتجاورتين.
ولم يقتصر الأمر على الثقافة اللاتينية، بل تأثر الأندلسيون أيضاً بالثقافة اليونانية التي كانت معروفة ومألوفة لديهم، فالشاعر الزجال "سعد بن عبد ربه " (ت 341 هـ)، ابن عم صاحب العقد الفريد، كان معنياً بكتابات الإغريق وعلوم الأوائل ويشير " ابن الخطيب " إلى أن حكم اليونان كانت تدرس في الأندلس ولاسيما لأبناء الطبقة الراقية من الملوك والأمراء، وضرب أمثلة على ذلك ببعض أمراء بني الأحمر في مملكة "غرناطة". على أن أهم إنجاز علمي قامت به الأندلس في هذا المجال، هو ترجمة الكتاب اليوناني المشهور "الأدوية المفردة" الملقب بكتاب الحشائش للطبيب اليوناني "ديوسقوريدس DIOSCORIDES الذي عاش في القرن الأول الميلادي. فيروي المؤرخون أن الخليفة الأندلسي "عبد الرحمن الناصر"، عندما تسلم نسخة من هذا الكتاب كهدية من الإمبراطور البيزنطي "قسطنطين السابع "، سنة 337هـ ، شكل لجنة علمية لترجمته إلى العربية. وقد أثار ظهور هذه الترجمة العربية موجة من الحماس بين الأندلسيين الذين أقبلوا على دراسة الطب والنباتات الطبية، متخذين من كتاب " ديوسقوريدس " مصدراً رئيسياً لهم، وكل هذا يدل على تأثير الثقافة الإغريقية في حضارة الأندلس.
على أن الأندلس وإن كانت قد استفادت من الثقافة اللاتينية والإغريقية، إلا أنها في نفس الوقت، أعطت وأثرت في المدونات والحوليات والملاحم الإسبانية منذ وقت مبكر عقب الفتح الإسلامي، مما يدل على أن مؤلفيها أخذوا مادتهم العلمية من مصادر عربية ولا سيما من ص دينة "طليطلة" الإسلامية المجاورة لحدودهم في شمال أسبانيا.
ولما سقطت "طليطلة" TOLEDO في يد الأسبان سنة 478 هـ/1085م لم تفقد طابعها العربي قروناً طويلة، إذ استمر العلماء المسلمون، والمستعربون المسيحيون، واليهود يجتمعون في بلاط ملوكها المسيحيين، ويعكفون على ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية. وكانت هذه الكتب إما ترجمات عربية لأصول يونانية وفارسية وهندية، وإما من تأليف علماء المسلمين أنفسهم بما تضمنته من إضافات جديدة إلى الفكر الإنساني. وكلا النوعين كان جديداً بالنسبة لأوروبا التي كان التعليم فيها قاصراً على الأناشيد الكنسية. ولهذا صارت مدرسة المترجمين في "طليطلة" مركزاً ثقافياً كبيراً جذب إليه العلماء والدارسين من مختلف أنحاء أوروبا ولقد برز من كبار العلماء الذين أشرفوا على هذه الحركة العلمية، أسقف مدينة طليطلة "خيمينث دي رادا"، DE RADA " الذي يعرف أيضاً بالطليطلي ( 1170 ـ 1247 م). وكان يتقن عدة لغات من بينها العربية التي ساعدته كثيراً على الإفادة من المصادر العربية، وكتابة القسم الإسلامي من مدونته الكبيرة التي شملت تاريخ الرومان والقوط والعرب، وتسمى بحولية الطليطلي CRONICA DEL TOLEDANO " ولما ولي عرش أسبانيا الملك " ألفونسو العاشر" الملقب بالعالم أو الحكيم EL SABIO في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي (7 هـ)، دفع بمدرسة "طليطلة" إلى الأمام، وعمل على حمايتها ورعاية علمائها، وتشجيعهم على الاستمرار في أعمال النقل والترجمة. بل إنه شارك بنفسه في وضع الخطط التي يسيرون عليها ولقد اتسمت هذه النهضة بظاهرة جديدة تقوم على استخدام اللغة القشتالية (الأسبانية) مكان اللغة اللاتينية في تدوين المصنفات الأدبية والتاريخية والفلسفية. وبهذا الأسلوب استطاعت هذه المدرسة أن تصب كل هذه الأصول العربية واللاتينية واليونانية في قالب قشتالي. ولم يقتصر اهتمام هذا الملك العالم على مدينة "طليطلة" كمركز ثقافي، بل أنشأ إلى جانبها مراكز أخرى في مدينة "مرسية" وفي مدينة "اشبيلية" التي اتخذها قاعدة لملكه.
وتحدثنا كتب التاريخ والتراجم أن عدداً كبيراً من علماء المسلمين كانوا يجيدون اللغة الإسبانية، ويناقشون علماء المسيحية في مختلف المسائل الدينية والدنيوية. ومثال ذلك العالم الغرناطي، "محمد الرقوطي " الذي عهد إليه الملك " الفونسو العالم " تعليم المسيحيين واليهود في مدرسة "مرسية". وهناك العالم الغرناطي "عبد الله بن سهل "، في القرن السابع الهجري أيضاً، الذي كانت له شهرة كبيرة في، العلوم الرياضية لدرجة أن المسيحيين في شتى نواحي أسبانيا، كانوا يرحلون إلى داره في مدينة "بياسة" -BAEZE لمجادلته والاستفادة من علمه. ولا يتسع المجال لحصر الأعمال العلمية التي ترجمت تحت إشراف الملك "ألفونسو العالم "، ولكن يكفي أن نشير إلى شروح أعلام الفكر الإسلامي وآرائهم الفلسفية مثل شروح "ابن رشد" على مؤلفات " أرسطو" ويثروح "ابن باجة" وآراء "محيي الدين بن عربي " الصوفي المرسى، ورسالة "حي بن يقظان " لابن طفيل " والمقامات العربية الأدبية التي خلفت نوعاً من القصص الأسباني المعروف بالقصة البيكارسكية، NOVELA PICARESCA أو أنشودة الجوع EPOPEYA DEL HAMBRE. كذلك ثبت تاريخياً أن إحدى صور المعراج النبوي قد ترجمت من العربية إلى القشتالية والفرنسية واللاتينية بأمر من الملك "ألفونسو العالم " سنة 1264 م . لهذا كانت الفرصة سانحة أمام الشاعر الفلورنسي الإيطالي دانتي اليجييري (1265- 1321 م) لكي يصل إلى إحدى هذه الترجمات للمعراج الإسلامي. وهناك احتمال أن يكون أستاذه برونيتو لاتيني أو غيره ممن كانوا يترددون بين فلورنسا وبلاط ملك قشتالة، قد ساعد دانتي على ذلك بأن حمل له مسودة من الترجمة.
على أن العمل العلمي الكبير الذي أنجز تحت أشراف هذا الملك العالم، هو في الواقع مدونته التاريخية الكبرى المعروفة باسم التاريخ الأول لأسبانيا، primera cronica generalde espana .فهذه المدونة اعتمدت على العديد من المصادر العربية المفقودة مثل تاريخ "أحمد الرازي غازي القرطبي"(ت 344 هـ)، وتاريخ (ابن علقمة البلنسي"(ت 509 هـ)، فحفظت لنا معلومات هامة من هذا التراث الضائع. كذلك تضمنت هذه المدونة عددا من الملاحم الإسبانية التي تتصل أحداثها بتاريخ المسلمين في الأندلس ومن أهمها: ملحمة أبناء لارا السبعه ، Los Infantes de Lara التي تتصل أحداثها بعصر الحاجب "المنصور بن أبي عامر"، وملحمة زايدة المسلمة، Lamora zaidaزوجة المأمون بن المعتمد بن عباد" الذي قتله المرابطون في "قرطبة"، وملحمة الفارس الأسباني المغامر السيد "القمبيطور" أي المبارز El cid campeador الذي أستولي على " بلنسية" في أواخر القرن الخامس الهجري (11 م). وقد لاحظ المؤرخون أن هذه الملاحم Epicas،" تنبض بالعناصر العربية، وأن أحداثها، وإن كانت تتسم بطابع قصصي، إلا أنها تتصل اتصالا وثيقا بحياة المسلمين في الأندلس، كذلك لاحظوا أنها كانت في الأصل تتردد على ألسنة الناس على شكل أشعار باللغة الرومانية أو اللاتينية العامية، فجاء الملك " ألفونسو العالم "ودونها في حوليته في قالب نثري باللغة القنتشالية.
وهكذا نري مما تقدم أن الحولية التاريخية الكبرى للملك "ألفونسو العالم " هي مثل رائع لذلك الدور الذي قامت به الأندلس، كجسر حضاري، امتزجت فيه حضارتا الشرق والغرب.