خصائص الحضارة الإسلامية
اعتمدت الدولة العباسية- كما أسلفنا- علي شعوب البلاد المفتوحة. وكانت هذه الشعوب عريقة في حضارتها، فهناك الحضارة الساسانية التي سادت العراق وفارس، وكانت تحتفظ بتراث أسيوي خاص ساهمت في تكوينه الحضارتان الصينية والهندية بنصيب وافر. وهناك الحضارة البيزنطية التي سادت في الأقطار المطلة على حوض البحر المتوسط، وهي حضارة ذات أصول يونانية شرقية، لأن البيزنطيين والرومان من قبلهم، كانوا تلاميذ لليونان، وكانت الإسكندرية وحران والرها ونصيبين وإنطاكية من أهم مراكز الثقافة اليونانية الرومانية.
فالعرب، رغم تراثهم العريق القديم الذي تمثل، في حضارات معين وسبأ وحمير في بلاد اليمن، وحضارة الحجاز التي اشتهرت بنشاطها التجاري والديني، إلا أنهم وجدوا في البلاد التي فتحوها حضارات متطورة راقية، لها إدارات حكومية منظمة، ونظم اقتصادية متفوقة في الزراعة وأعمال الري والصناعة، وفي ميادين العلوم العقلية والتجريبية كالرياضيات والفلك والفيزياء، فاغترفوا منها بما يتفق مع تقاليدهم وعقيدتهم.
وهكذا نرى أن الدولة العباسية باعتمادها على هذه الشعوب، عملت على مزجها وصهرها في البوتقة الإسلامية. وهذا الاتحاد هو السر في تلك النهضة العلمية العجيبة التي امتدت من، قيام الدولة العباسية إلى نهاية القرن الرابع الهجري. فان كان للدولة العربية الإسلامية في صدر الإسلام، فضل الفتوح والانتشار والاتصال بالحضارات القديمة مما أدى إلى ظهور المنابت الأولى للحضارة الإسلامية في أواخر عهدها، فإن للدولة العباسية فضل رعاية هذه المنابت الحضارية والعمل على تنميتها وازدهارها. فالمسلمون نقلوا وترجموا وعربوا هذا التراث القديم إلى لغتهم العربية حتى إذا ما استوعبوا ما نقلوه، أخذوا ينتجون ويبدعون ويضيفون، حتى قدموا للعالم ما عرف بالحضارة العربية الإسلامية، وهي الحضارة التي توفرت لها تلك المزايا الثلاث التي لا تتوفر إلا في الحضارات الكبرى وهي: ا لامتياز، والأصالة، والإسهام في تطور البشرية.
لهذا أجمع العلماء علي أن الحضارة الإسلامية تحتل مكانة رفيعة بين الحضارات الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات العالمية عمراً، وأعظمها أثراً في الحضارة العالمية.
وتبدأ هذه النهضة الحضارية في العراق بعد أن أسس الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" مدينة بغداد
(145- 149 هـ) وجعلها عاصمة لدولته، ومقراً للخلافة العباسية صاحبة السلطان الشرعي على جميع الأقطار الإسلامية. فهي لم تكن مثل الفسطاط أو دمشق أو قرطبة، عاصمة قطر بعينه، بل كانت عاصمة العالم الإسلامي كله. ولهذا صارت مدينة دولية COSMOPOLITE واكتسبت صفة عالمية، وسكنتها عناصر من مختلف الأجناس، والملل والنحل، إسلامية وغير إسلامية، فهناك الفرس والهنود والسريان والروم والصينيون وغيرهم. وكل هذه العناصر لم تسكن بغداد بأشخاصها فقط، بل بثقافاتها وتجارتها وعلمها وفنها، فعربت ألفاظ يونانية وفارسية وهندية كثيرة. وترجمت عن اليونانية "حكم سقراط وأفلاطون وأرسطو، وظهرت كتب الأدب العربي مثل عيون الأخبار لابن قتيبة، والبيان والتبيين للجاحظ.
وفي خلافة أبي جعفر المنصور (136- 158 هـ) ترجمت بعض أعمال العالم السكندري القديم بطليموس القلوذي CLAUDIUS PTOLOMY (ت. 17 م)، ومن أهمها كتابه المعروف، باسم "المجسطي ". واسم هذا الكتاب في اليونانية " (EMEGAL MATHEMATIKE ، " أي الكتاب الأعظم في الحساب. ويبدو أن المسلمين حولوا لفظ MEGALE في مجال إلى" مجسطي ". والكتاب عبارة عن دائرة معارف في علم الفلك والرياضيات. وقد أفاد منه علماء المسلمين وصححوا بعض معلوماته وأضافوا إليه.
وعن الهندية، ترجمت أعمال كثيرة مثل الكتاب الهندي المشهور في علم الفلك والرياضيات، "براهمسبهطسدهانت " وتختصر بسد هانتاSiddhanta أي " المعرفة والعلم والمذهـب ". وقد ظهرت الترجمة العربية في عهد أبي جعفر المنصور بعنوان "السند هند" وهو تحريف للعنوان الأصلي. ومع كتاب "السند هند" دخل علم الحساب الهندي بأرقامه المعروفة في العربية بالأرقام الهندية فقد تطور على أثرها علم العدد عند العرب، وأضاف إليها المسلمون نظام الصفر، والذي لولاه لما فاقت الأرقام العربية غيرها من الأرقام،ولما كان لها أية ميزة، ولما استطعنا أيضاً أن نحل كثيراً من المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات، فقد سهل استعماله لجميع أعمال الحساب، وخلص نظام الترقيم من التعقيد، ولقد أدى استعمال الصفر في العمليات الحسابية إلى اكتشاف الكسر العشري الذي ورد في كتاب مفتاح الحساب للعالم الرياضى؟ المسلم، جمشيد بن محمود غياث الدين الكاشي(ت 840 هـ1436 م)، وكان هذا الكشف المقدمة الحقيقية للدراسات والعمليات الحسابية المتناهية في الصغر، لقد كانت الأرقام العربية بصفرها وكسورها العشرية بحق هدية الإسلام إلى أوروبا. ومن هذا الكتاب أيضاً استخرج العالم "إبراهيم الفزاري "- الذي أشرف على ترجمته- جدولاً حسابياً فلكياً يبين مواقع النجوم ويحسب حركاتها وهو ما يعرف باسم "الزيج ". أما الآلة الفلكية التي تستخدم لرصد الكواكب، فكانت تسمى "بالاصطرلاب ". ويعتبر إبراهيم الفزاري أول من صنع الاصطرلاب من المسلمين.
وعن الفارسية، ترجم كتاب "كليلة ودمنة" الذي كان هندياً في الأصل ثم ترجم إلى الفارسية وعنها نقله "عبد الله بن المقفع " إلى العربية في خلافة المنصور أيضاً. هذا إلى جانب ترجمته لعدة كتب أخرى في تاريخ وأدب الفرس ونظمهم وتقاليدهم. ومن المعروف أن الخليفة العباسي المأمون قد أوكل إلى سهل بن هارون، ترجمة الكتب الفارسية. كذلك نذكر كتاب "هزار افسانه " ومعناه ألف خرافة، إذ أن الخرافة بالفارسية يقال لها افسانه، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة وهو خبر الملك والوزير وابنته وجاريتيها وهما شيرازاد ودينازاد، ويبدو أن هذه القصص وصلت إلى المسلمين عن طريق الفرس، ويظهر في بعضها أثر أفكار الهنود في الأرواح وتناسخها، وقد وضعت هذه القصص في قالب عربي إسلامي في العصر العباسي الأول ثم زيد فيها في العصر الفاطمي بحيث لم يتبق من التأثير الفارسي سوى بعض الأسماء الفارسية. والشاهنامة للفردوس التي ترجمها نثرا الفتح بن علي البنداري سنة
697 هـ/1297 م، وهناك أيضا لعبة الشطرنج الهندية الأصل والتي انتقلت عن طريق الفرس إلى المسلمين، وألفت فيها كتب بالعربية وصار لها انتشار كبير في عالم الإسلام.
وفي خلافة المهدي بن المنصور (158- 169 هـ) برز عالم عربي في الكيمياء يدعى جابر بن حيان الأزدي " الذي نسبت إليه كتابات كثيرة في الكيمياء تضم ما وصل إليه هذا العلم من تقدم في هذا الوقت سواء في المركبات الكيميائية التي لم تكن معروفة في ذلك الوقت مثل نترات الفضة المتبلورة وحامض الأزوتيك وحامض الكبريتيك (زيت الزاج) ولاحظ ما يرسب من كلوروز الفضة عند إضافة ملح الطعام أو في وصف العمليات الكيميائية كالتقطير والتبخير والترشيح والتبلور والتذويب والتصعيد والتكليس ونحوها.
وفي خلافة هارون الرشيد (170 هـ/ 786،ـ 193هـ / 808 م) أسس في بغداد في بيت الحكمة" لأعمال النقل والترجمة، الذي ازدهر في عهد ولده عبد الله المأمون (198 هـ/813 م- 218 هـ/833 م)، فترجمت فيه أمهات الكتب اليونانية القديمة، وأقيمت فيه المراصد، ورسمت فيه الرسوم (الخرائط) الجغرافية على أحدث ما توصل إليه العلم في الأرصاد وأعمال المساحة. كما تخرج منه مشاهير العلماء أمثال " محمد بن موسى الخوارزمي (ت 232 هـ846 م) " الذي عهد إليه المأمون بوضع كتاب في علم الجبر، فوضع كتابه " المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، وهذا الكتاب هو الذي أدى إلى وضع لفظ الجبر وإعطائه مدلوله الحالي. قال ابن خلدون: "علم الجبر والمقابلة (أي المعادلة) من فروع علوم العدد، وهو صناعة يستخرج بها العدد المجهول من العدد المعلوم إذا كان بينهما صلة تقتضي ذلك فيقابل بعضها بعضاً، ويجبر ما فيها من الكسر حتى يصير صحيحاً". فالجبر إذن، علم عربي سماه العرب بلفظ من لغتهم، والخوارزمي هو الذي خلع عليه هذا الاسم الذي انتقل إلى اللغات الأوروبية بلفظه العربي ALGEBRAولقد ترجم كتاب الخوارزمي إلى اللغة اللاتينية في سنة 1135 م بواسطة مستعرب إنجليزي اسمه " رو برت أوف تشستر" ROBERT OF CHESTER " درس وعاش في أسبانيا حيث كان أسقف بامبلونه ، ومن هناك انتقلت ترجمته إلى أوربا حيث ظلت تدرس في جامعاتها حتى القرن السادس عشر الميلادي. كما انتقلت الأرقام العربية إلى أوربا عن طريق مؤلفات "الخوارزمي ". ومن الملاحظ أن اسم "الخوارزمي " استعمل في اللغة اللاتينية على شكل "الجور تمي "ALGORISMO ثم حور في قالب "الجورزمو " ALGORISMO "للدلالة على نظام الأعداد وعلم الحساب والجبر وطريقة حل المسائل الحسابية .
هذا، وتظهر عبقرية "الخوارزمي " في " الزيج " أو الجدول الفلكي الذي صنعه وأطلق عليه اسم "السند هند الصغير،،وقد جامع فيه بين مذهب الهند، ومذهب الفرس، ومذهب بطليموس (اليونان)، فاستحسن أهل زمانه ذلك وانتفعوا به مدة طويلة فذاعت شهرته وصار لهذا الزيج أثر كبير في الشرق والغرب.
وللخوارزمي مأثرة أخرى، وهي أنه رسم أ للمأمون خريطة كبيرة للعالم المعمور على أيامه، كما وضع كتاباً جغرافياً بعنوان "صورة الأرض " اعتمد فيه على كتاب المجسطي لبطليموس مع إضافات وشروح وتعليقات. وقد نشر هذا الكتاب وترجم إلى الألمانية سنة 1926 م.