فصل ـ هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم
و لم يبق ( بمكة ( من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و علي رضي الله تعالى عنهما أقاما بأمره لهما ، و خلا من اعتقله المشركون كرهاً ، و قد أعد أبو بكر رضي الله عنه جهازه و جهاز رسول الله صلى الله عليه و سلم ، منتظراً حتى يأذن الله عز و جل لرسوله صلى الله عليه و سلم في الخروج . فلما كانت ليلة هم المشركون بالفتك برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أرصدوا على الباب أقواماً ، إذا خرج عليهم قتلوه ، فلما خرج عليهم لم يره منهم أحد ، وقد جاء في حديث أنه ذر على رأس كل واحد من هم تراباً ثم خلص إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً ، و قد استأجرا عبد الله بن أريقط ، و كان هادياً خريتاً ، ماهراً بالدلالة إلى أرض المدينة ، و أمناه على ذلك مع أنه كان على دين قومه ، و سلما إليه راحلتيهما ، و واعداه غار ثور بعد ثلاث ، فلما حصلا في الغار عمى الله على قريش خبرهما ، فلم يدروا أين ذهبا . و كان عامر بن فهيرة ، يريح عليهما غنماً لأبي بكر ، وكانت أسماء بنت أبي بكر تحمل لهما الزاد إلى الغار ، و كان عبد الله بن أبي بكر يتسمع ما يقال بمكة ثم يذهب إليهما بذلك فيحترزان منه . و جاء المشركون في طلبهما إلى ثور ، وما هناك من الأماكن ، حتى إنهم مروا على باب الغار ، و حازت أقدامهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحبه ، و عمى الله عليهم باب الغار ، و يقال ـ و الله أعلم ـ إن العنكبوت سدت على باب الغار ، و إن حمامتين عششتا على بابه ، و ذلك تأويل قوله تعالى " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " و ذلك أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لشدة حرصه بكى حين مر المشركون ، و قال : يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر موضع قدميه لرآنا ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ " . و لما كان بعد الثلاث أتى ابن أريقط بالراحلتين فركباهما ، و أردف أبو بكر عامر بن فهيرة و سار الديلي أمامهما على راحلته .
و جعلت قريش لمن جاء بواحد من محمد صلى الله عليه و سلم و أبي بكر رضي الله عنه مائةً من الإبل ، فلما مروا بحي مدلج ، بصر بهم سراقة بن مالك بن جعشم ، سيد مدلج ، فركب جواده و سار في طلبهم ، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى الله عليه و سلم ، و أبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات حذراً على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وهو صلى الله عليه و سلم لا يلتفت ، فقال أبو بكر :يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا .
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فساخت يدا فرسه في الأرض فقال : رميت ، إن الذي أصابني بدعائكما ، فادعوا الله لي ، و لكما علي أن أرد الناس عنكما ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم فأطلق ، و سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكتب له كتاباً ، فكتب له أبو بكر في أدم ، و رجع يقول للناس : قد كفيتم ما ههنا . و قد جاء مسلماً عام حجة الوداع و دفع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الكتاب الذي كتبه له ، فوفى له رسول الله صلى الله عليه و سلم بما وعده و هو لذلك أهل .
و مر رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقال عندها ، و رأت من آيات نبوته في الشاة و حلبها لبناً كثيراً في سنة مجدبة ما بهر العقول ، صلى الله عليه و سلم .