حجه واعتماره صلى الله عليه و سلم
لم يحج صلى الله عليه و سلم بعدما هاجر إلا حجته هذه ، و هي حجة الإسلام وحجة الوداع ، و كان فرض الحج في السنة السادسة في قول بعض العلماء ، و في التاسعة في قول آخرين منهم ، و قيل : سنة عشر ، و هو غريب و أغرب منه ماحكاه إمام الحرمين في النهاية و جهاً لبعض الأصحاب : أن فرض الحج كان قبل الهجرة و أما عمره فكن أربعاً : الحديبية التي صد عنها ، و عمرة القضاء بعدها ، ثم عمرة الجعرانة ، ثم عمرته التي مع حجته . و قد حج صلى الله عليه و سلم قبل الهجرة مرة ، و قيل : أكثر . و هو الأظهر ، لأنه كان صلى الله عليه و سلم يخرج ليالي الموسم يدعو الناس إلى الله تعالى ، صلى الله عليه و سلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين .
عدد غزواته و بعوثه
أما غزواته ، فروى مسلم من حديث عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي عن أبيه قال : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم تسع عشرة غزوة ، قاتل في ثمان منهن ، وعن زيد بن أرقم قال : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم تسع عشرة غزوة كنت معه في سبع عشرة . و أما محمد بن إسحاق فقال : كانت غزواته التي خرج فيها بنفسه سبعاً وعشرين ، و كانت بعوثه و سراياه ثما نياً و ثلاثين ، و زاد ابن هشام في البعوث على ابن إسحاق ، و الله أعلم .
أعلام نبوته
في أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم على سبيل الإجمال ، لأن تفصيله يحتاج إلى مجلدات عديدة ، و قد جمع الأئمة في ذلك ما زاد على ألف معجزة .
فمن أبهرها و أعظمها القرآن العزيز ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، و إعجازه من جهة لفظه و معناه :
أما لفظه ففي أعلى غايات فصاحة الكلام و كل من ازدادت معرفته بهذا الشأن ازداد للقرآن تعظيماً في هذا الباب ، و قد تحدى الفصحاء و البلغاء في زمانه مع شدة عدواتهم له ، و حرصهم على تكذيبه ، بأن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة ، فعجزوا . و أخبرهم أنهم لا يطيقون ذلك أبداً ، بل قد تحدى الجن و الإنس قاطبة على أن يأتوا بمثله فعجزوا ، و أخبرهم بذلك ، فقال الله تعالى : " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " إلى غير ذلك من الوجوه المثبتة لإعجازه . و أما معناه فإنه في غاية التعاضد و الحكمة ، و الرحمة و المصلحة ، و العا قبة الحميدة و الاتفاق ، و تحصيل أعلى المقاصد ، و تبطيل المفاسد ، إلى غير ذلك مما يظهر لمن له لب و عقل صحيح خال من الشبه و الأهواء ، نعوذ بالله منها و نسأله الهدى .
و من ذلك أنه نشأ بين قوم يعرفون نسبه و مرباه و مدخله و مخرجه ، يتيماً بين أظهرهم ، أميناً صادقاً ، باراً راشداً ، كلمهم يعرف ذلك و لاينكره إلا من عاند و سفسط و كابر . و كان أمياً لا يحسن الكتابة و لا يعانيها و لا أهلها ، و ليس في بلادهم من علم الأولين ، و لا من يعرف شيئاً من ذلك فجاءهم على رأس أربعين سنة من عمره يخبر بما مضى مفصلا مبيناً ، يشهد له علماء الكتب المتقدمة البصيرون بها المهتدون بالصدق ، بل أكثر الكتب المنزلة قبله قد دخلها التحريف والتبديل ، و يجيء ماأنزل الله عليه مبيناً عليه ، دالاً على الحق منه ، و هو مع ذلك في غاية الصدق و الأمانة ، و السمت الذي لم ير أولو الألباب مثله صلى الله عليه و سلم ، والعبادة لله ، و الخشوع له ، و الذلة له ، و الدعاء إليه ، و الصبر على أذى من خالفه و احتماله ، و زهده في الدنيا ، وأخلاقه السنية الشريفة : من الكرم و الشجاعة و الحياء و البر ، و الصلة صلى الله عليه و سلم ، إلى غير ذلك من الأخلاق التي لم تجتمع في بشر قبله و لا بعده ، إلا فيه ، فبالعقل يدرك أن هذا يستحيل أن يكذب على أدنى مخلوق بأدنى كذبة ، فكيف يمكن أن يكون في مثل هذا قد كذب على الله رب العالمين ، الذي قد أخبرهو بما لديه من أليم العقاب ، و ما لمن كذب عليه و افترى ؟! هذا لايصدر إلا من شر عباد الله و أجرئهم و أخبثهم ، و مثل هذا لا يخفى أمره على الصبيان في المكاتب ، فكيف بأولي الأحلام و النهى ، الذين بذلوا أنفسهم و أموالهم و فارقوا أولادهم و أوطانهم و عشائرهم في حبه و طاعته ؟ رضي الله تعالى عنهم ، و صلى الله عليه و سلم في تعاقب الليل و النهار .
و من ذلك ما أخبر صلى الله عليه و سلم به في هذا القرآن ، و فيما صح عنه من الأحاديث ، من الغيوب المستقبلة المطابقة لخبره حذو القذة بالقذة مما يطول استقصاؤه ها هنا .
و من ذلك ماأظهره الله تعالى على يديه من خوارق العادات الباهرة : فمن ذلك : ماأخبر الله عز و جل عنه في كتابه العزيز من انشقاق القمر ، و ذلك أن المشركين سألوه آية و كان ذلك ليلاً ، فأشار إلى القمر ، فصار فرقتين ، فسألوا من حولهم من الأحياء ، لئلا يكون قد سحرهم فأخبروهم بمثل ما رأوا ، و هذا متواتر عنه عند أهل العلم بالأخبار ، و قد رواه غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
و من ذلك ما ظهر ببركة دعائه في أماكن يطول بسطها ، و تضيق مجلدات عديدة عن حصرها ، و قد جمع الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى كتاباً شافياً في ذلك مقتدياً بمن تقدمه في ذلك ، كما اقتدى به كثيرون بعده رحمهم الله تعالى :
فمن ذلك أنه صلى الله عليه و سلم دعا الله تعالى في السخلة التي كانت مع ابن مسعود في الرعي ، و سمى الله و حلبها ، فدرت عليه ، فشرب و سقى أبا بكر ، وكذلك فعل في شاة أم معبد . و دعا للطفيل بن عمرو ، فصارت آية في طرف سوطه ، نور يلمع يرى من بعد .
و كذلك حصل لأسيد بن الحضير و عباد بن بشر الأنصاري و قد خرجا من عنده في ليلة ظلماء . و دعا الله على السبعة الذي سخروا منه و هو يصلي ، فقتلوا ببدر .
و دعا على ابن أبي لهب ، فسلط الله عليه السبع بالشام وفق دعائه عليه السلام . و دعا على سراقة فساخت يدا فرسه في الأرض ، ثم دعا الله فأطلقها و رمى كفار قريش في بدر بقبضة من حصباء فأصاب كلا منهم شيء منها و هزمهم الله . و كذلك فعل يوم حنين سواء .
و أعطى يوم بدر لعكاشة بن محصن جذلاً من حطب فصار في يده سيفاً ماضياً .
و أخبر عمه العباس ـ و هو أسير ـ بما دفن هو و أم الفضل من المال تحت عتبة بابهم ، فأقرله بذلك .
و أخبر عمير بن وهب بما جاء له من قتله معتذرا بأنه جاء في فداء أسارى بدر ، فاعترف له بذلك ، وأسلم من و قته رضي الله عنه . و رد يوم أحد عين قتادة بن النعمان الظفري بعد أن سالت على خده . و قيل : بعدما صارت في يده ، فصارت أحسن عينيه ، فلم تكن تعرف من الأخرى . و أطعم يوم الخندق الجم الغفير الذين يقاربون ألفاً : من سخلة و صاع شعير ببيت جابر . كما أطعم يومئذ من نزر يسير من تمر ، جاءت به ابنة بشير . و كذلك أطعم نحو الثمانين من طعام كادت تواريه يده المكرمة . و كذلك فعل يوم أصبح عروساً بزينب بنت جحش . و أما يوم تبوك ، فكان أمراً هائلاً ، أطعم الجيش و ملؤوا كل وعاء معهم من قدر ربضة العنز طعاماً . و أعطى أبا هريرة رضي الله عنه مزوداً فأكل منه دهره ، و جهز منه في سبيل الله شيئاً كثيراً و لم يزل معه إلى أيام مقتل عثمان .
و أشياء أخرى من هذا النمط يطول ذكرها مجردة ، و سنفرد لذلك ـ إن شاء الله تعالى و به الثقة ـ مصنفاً على حدة .
و دعا الله تعالى لما قحطوا فلم ينزل عن المنبر حتى تحدرالماء على لحيته صلى الله عليه و سلم من سقف المسجد ، و قد كان قبله لا يرى في السماء سحابة و لا قزعة و لا قدر الكف ، ثم لما استصحى لهم انجاب السحاب عن المدينة حتى صارت المدينة في مثل الإكليل . و دعا الله على قريش فأصابهم من الجهد ما لا يعبر عنه ، حتى استرحموه ، فعطف عليهم فأفرج عنهم .
و أتي بإناء فيه ماء ليتوضأ به ، فرغب إليه أقوام هناك أن يتوضؤوا معه فوضع يده في ذلك الإناء ، فما وسعها، ثم دعا الله ، فنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه و سلم .
و كذلك فعل يوم الحديبية ، و كان الجيش ألفاً و أربعمائة ، قال جابر : و لو كنا مائة ألف لكفانا .
و كذلك فعل في بعض أسفره بقطرة من ماء في سقاء ، قال الراوي : لما أمرني أن أفرغها في الوعاء خشيت أن يشربها يابس القربة ، فوضع يده فيها ، و دعا الله تعالى ، فنبع الماء من بين أصابعه لأصحابه ، حتى توضؤوا و شربوا .
و كذلك بعث سهمه إلى عين الحديبية فوضعت فيها فجاشت بالماء حتى كفتهم . و كذلك فعل يوم ذات السطيحتين ، سقى أصحابه و توضؤوا ، و أمر بعضهم فاغتسل من جنابة كانت عليه ، و لم ينقص من تلك المزادتين اللتين للمرأة شيء ، فذهبت إلى قومها ، فقالت : رأيت اليوم أسحر أهل الأرض ، أو إنه لنبي . . ! ثم أسلمت ، و أسلم قومها ، رضي الله عنهم .
في كثير من هذا النمط يطول بسطه ، و فيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى .