وفاته صلى الله عليه و سلم
فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم و صفر ، ثم ابتدأ به صلى الله عليه و سلم و جعه في بيت ميمونة يوم خميس ، و كان و جعاً في رأسه الكريم ، و كان أكثر ما يعتريه الصداع عليه الصلاة والسلام ، فجعل مع هذا يدور على نسائه حتى شق عليه ، فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فأذن له ، فمكث وجعأاثني عشر يوماً . و قيل : أربعة عشر يوماً . و الصديق رضي الله عنه يصلي بالناس بنصه صلى الله عليه و سلم عليه ، و استثنائه له من جيش أسامة الذي كان قد جهزه صلى الله عليه و سلم إلى الشام لغزو الروم .
فلما حصل الوجع ، تربصوا لينظروا ما يكون من أمره صلى الله عليه و سلم و قد صلى عليه الصلاة و السلام خلف الصديق جالساً .
و قبض صلى الله عليه و سلم ضحى يوم الإثنين من ربيع الأول ، فالمشهور أنه الثاني عشر منه ، و قيل مستهله . وقيل : ثانية ، و قيل : غير ذلك .
و قال السهيلي ما زعم أنه لم يسبق إليه : من أنه لا يمكن أن تكون وقفته يوم الجمعة تاسع ذي الحجة ، ثم تكون وفاته يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعده ، سواء حسبت الشهور كاملة أم ناقصة ، أم بعضها كاملاً و بعضها ناقصاً .
و قد حصل له جواب صحيح في غاية الصحة و لله الحمد ، أفردته مع غيره من الأجوبة ، و هو أن هذا إنما وقع بحسب اختلاف رؤية هلال ذي الحجة في مكة و المدينة ، فرآه أهل مكة قبل أولئك بيوم ، و على هذا يتم القول المشهور ولله الحمد والمنة .
وكان عمره يوم مات صلى الله عليه و سلم ثلاثاً و ستين سنة ، على الصحيح ، قالوا : و لها مات أبو بكر وعمر وعلي و عائشة رضي الله عنهم ، ذكره أبو زكريا النووي في تهذيبه و صححه ، و في بعضه نظر . و قيل : كان ستين ، وقيل : خمساً و ستين و هذه الأقوال الثلاثة في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما . فاشتدت الرزية بموته صلى الله عليه و سلم ، و عظم الخطب و جل الأمر ، و أصيب المسلمون بنبيهم ، و أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك ، و قال : إنه لم يمت ، و إنه سيعود كما عاد موسى لقومه . و ماج الناس ، و جاء الصديق المؤيد المنصور رضي الله عنه أولا و آخراً و ظاهراً و باطناً ، فأقام الأود ، وصدع بالحق ، وخطب الناس و تلا عليهم : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " ، فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك ، فما من أحد إلا يتلوها . ثم ذهب المسلمون به إلى سقيفه بني ساعدة و قد اجتمعوا على إمرة سعد بن عبادة ، فصدهم عن ذلك و ردهم ، و أشار عليهم بعمر بن الخطاب أو بأبي عبيدة بن الجراح ، فأبيا ذلك و المسلمون ، و أبى الله ذلك أيضاً ، فبايعه المسلمون رضي الله عنهم هناك ، ثم جاء فبايعه الناس البيعة العامة على المنبر . ثم شرعوا في جهاز رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فغسلوه في قميصه ، و كان الذي تولى ذلك عمه العباس ، و ابنه قثم ، و علي بن أبي طالب ، و أسامة بن زيد ، و شقران ـ مولياه ـ يصبان الماء ، و ساعد في ذلك أوس بن خولي الأنصاري البدري ، رضي الله عنهم أجمعين .
و كفنوه في ثلاثة أثواب قطن سحولية بيض ليس فيها قميص .
و صلوا عليه أفراداً واحداً واحداً ، لحديث جاء في ذلك رواه البزار ـ و الله أعلم بصحته ـ أنه صلى الله عليه و سلم أمرهم بذلك . و قال الشافعي : إنما صلوا عليه مرة بعد مرة أفذاذاً لعظم قدره ، و لمنافستهم أن يؤمهم عليه أحد . قال الحاكم أبو أحمد فكان أولهم عليه صلاة العباس عمه ، ثم بنو هاشم ، ثم المهاجرون ، ثم الأنصار ، ثم سائر الناس ، فلما فرغ الرجال صلى الصبيان ثم النساء .
و دفن صلى الله عليه و سلم يوم الثلاثاء ، و قيل : ليلة الأربعاء سحراً ، في الموضع الذي توفي فيه من حجرة عائشة ، لحديث رواه الترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه ، و هذا هو المتواتر تواتراً ضرورياً معلوماً من الدفن الذي هو اليوم داخل مسجد المدينة .
أخر الجزء الأول من الترجمة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة و السلام . و يتلوه الذي يليه .