حجة الصديق و تواتر الوفود و بعث الرسل
و بعث صلى الله عليه و سلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج هذه السنة ، و أردفه علياً رضي الله عنه بسورة براءة : أن لا يحج بعد العام مشرك ، و لا يطوف بالبيت عريان ، و ينبذ إليهم عهودهم إلا من كان ذا عهد مقدر فعهده إلى مدته .
و تواترت الوفود هذه السنة و ما بعدها على رسول الله صلى الله عليه و سلم مذعنة بالإسلام و داخلين في دين الله أفواجاً كما قال تعالى : " إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " .
و بعث صلى الله عليه و سلم معاذ بن جبل إلى اليمن و معه أبو موسى الأشعري رضي الله عنهما ، و بعث الرسل إلى ملوك الأقطار يدعوهم إلى الإسلام . و انتشرت الدعوة ، و علت الكلمة ، و جاء الحق ، و زهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقاً .
حجة الوداع
نذكر فيه ملخص حجة الوداع و كيفيتها بعون الله و منه و حسن توفيقه و هدايته ، فنقول و بالله التوفيق :
صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الظهر يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة من سنة عشر بالمدينة ، ثم خرج منها بمن معه من المسلمين من أهل المدينة ومن تجمع من الأعراب ، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين ، و بات بها .
وأتاه آت من ربه عز وجل في ذلك الموضع ـ وهو وادي العقيق ـ يأمره عن ربه عز وجل أن يقول في حجته هذه : حجة في عمرة . و معنى هذا أن الله أمره أن يقرن الحج مع العمرة ، فأصبح صلى الله عليه و سلم فأخبر الناس بذلك ، فطاف على نسائه يومئذ بغسل واحد ، و هن تسع ، و قيل : إحدى عشرة . ثم اغتسل وصلى في المسجد ركعتين ، و أهل بحجة و عمرة معاً . هذا الذي رواه بلفظه و معناه عنه صلى الله عليه و سلم ستة عشر صحابياً ، منهم خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه ، و قد رواه عنه صلى الله عليه و سلم ستة عشر تابعياً ، و هو صريح لا يحتمل التأويل ، إلا أن يكون بعيداً ، و ما عدا ذلك مما جاء من الأحاديث الموهمة التمتع أو ما يدل على الإفراد ، فلها محل غير هذا تذكر فيه . و القران في الحج عند أبي حنيفة هو الأفضل ، و روي فيه عن الإمام أحمد بن حنبل قول ، و عن الإمام أبي عبد الله الشافعي ، و قد نصره جماعة من محققي أصحابه ، و هو الذي يحصل به الجمع بين الأحاديث كلها . و من العلماء من أوجبه ، و الله أعلم .
و ساق صلى الله عليه و سلم الهدي من ذي الحليفة ، و أمر من كان معه هدي أن يهل كما أهل صلى الله عليه و سلم .
و سار صلى الله عليه و سلم و الناس بين يديه و خلفه ، و عن يمينه و شماله أمماً لا يحصون كثرة ، كلهم قدم ليأتم به صلى الله عليه و سلم .
فلما قدم صلى الله عليه و سلم مكة طاف للقدوم ، ثم سعى بين الصفا و المروة ، و أمر الذين لم يسوقوا هدياً أن يفسخوا حجهم إلى عمرة و يتحللوا حلاً تاماً ، ثم يهلوا بالحج و قت خروجهمم إلى منى ، ثم قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي و لجعلتها عمرة " فدلك هذا أنه لم يكن متمتعاً قطعاً ، خلافاً لزاعمي ذلك من أصحاب الإمام أحمد و غيرهم و قدم علي رضي الله عنه من اليمن فقال صلى الله عليه و سلم : " بم أهللت ؟ قال : بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه و سلم . فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إني سقت الهدي وقرنت ". روى هذا اللفظ أبو داود و غيره من الأئمة بإسناد صحيح ، فهذا صريح في القران ، و قدم علي رضي الله عنه من اليمن هدياً ، و أشركه صلى الله عليه و سلم في هديه أيضاً ، و كان حاصلها مائة بدنة .
ثم خرج صلى الله عليه و سلم إلى منى فبات بها و كانت ليلة الجمعة التاسع من ذي الحجة . ثم أصبح فسار إلى عرفة و خطب تحت سمرة خطبة عظيمة ، شهدها من أصحابه نحو من أربعين ألفاً رضي الله عنهم أجمعين ، و جمع بين الظهر و العصر ثم و قف بعرفة . ثم بات بالمزدلقة ، و جمع بين المغرب والعشاء ليلتئذ ، ثم أصبح فصلى الفجر في أول وقتها .
ثم سار قبل طلوع الشمس إلى منى ، فرمى جمرة العقبة ، و نحر ، و حلق .
ثم أفاض فطاف بالبيت طواف الفرض و هو طواف الزيارة ، و اختلف أين صلى الظهر يومئذ ، و قد أشكل ذلك على كثير من الحفاظ .
ثم حل من كل شيء حرم منه صلى الله عليه و سلم .
و خطب ثاني يوم النحر خطبة عظيمة أيضاً ، و وصى و حذر و أنذر و أشهدهم على أنفسهم أنه بلغ الرسالة . فنحن نشهد أنه بلغ الرسالة ، و أدى الأمانة ، و نصح الأمة صلى الله عليه و سلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين .
ثم أقبل صلى الله عليه و سلم منصرفاً إلى المدينة ، و قد أكمل الله له دينه .