غزوة بني قريظة
نذكرفيه غزوة بني قريظة ، فنهض صلى الله عليه و سلم من وقته إليهم ، و أمر المسلمين أن لا يصلي أحد صلاة العصر ـ وقد كان دخل وقتها ـ إلا في بني قريظة . فراح المسلمون أرسالاً ، و كان منهم من صلى العصر في الطريق ، و قالوا : لم يرد رسول الله ترك الصلاة ، إنما أراد تعجيل السير ، و كان منهم من لم يصل حتى غربت الشمس ، ووصل إلى بني قريظة ، و لم يعنف صلى الله عليه و سلم واحداً من الفريقين .
قال ابن حزم : و هؤلاء هم المصيبون و أولئك مخطئون مأجورون ، و علم الله لو كنا هناك لم نصل العصر إلا في بني قريظة و لو بعد أيام .
قلت أما ابن حزم فإنه معذور لأنه من كبار الظاهرية ، و لا يمكنه العدول عن هذا النص ، و لكن في ترجيح أحد هذين الفعلين على الآخر نظر و ذلك أنه صلى الله عليه و سلم لم يعنف أحداً من الفريقين ، فمن يقول بتصويب كل مجتهد ، فكل منهما مصيب و لا ترجيح ، و من يقول بأن المصيب واحد ـ و هو الحق لاشك فيه و لامرية ، لدلائل من الكتاب و السنة كثيرة ـ فلا بد على قوله من أن أحد الفريقين له أجران بإصابة الحق ، و للفريق الآخر أجر ، فنقول و بالله التوفيق : الذين صلوا العصر في وقتها حازوا قصب السبق ، لأنهم امتثلوا أمره صلى الله عليه و سلم في المبادرة إلى الجهاد و فعل الصلاة في وقتها ، و لا سيما صلاة العصر التي أكد الله سبحانه المحافظة عليها في كتابه بقوله تعالى : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " و هي العصر على الصحيح المقطوع به إن شاء الله من بضعة عشر قولاً ، و التي جاءت السنة بالمحافظة عليها . فإن قيل : كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزاً ، كما أنه صلى الله عليه و سلم أخر العصر و المغرب يوم الخندق و اشتغل بالجهاد ، و الظهر أيضاً كما جاء في حديث رواه النسائي من طريقين ، فالجواب أنه بتقدير تسليم هذا و أنه لم يتركها يومئذ نسياناً ، فقد تأسف على ذلك ، " حيث يقول لما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا رسول الله ! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب ، فقال و الله ما صليتها " و هذا يشعر بأنه صلى الله عليه و سلم كان ناسياً لها لما هو فيه من الشغل ، كما جاء في الصحيحين " عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم و بيوتهم ناراً " .
و الحاصل أن الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الأدلة ، و فهموا المعنى فلهم الأجر مرتين ، والآخرين
حافظوا على أمره الخاص ، فلهم الأجر رضي الله عن جميعهم و أرضاهم .
و أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، و استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، و نازل حصون بني قريظة و حصرهم خمساً و عشرين ليلة ، و عرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خصال : إما أن يسلموا و يدخلوا مع محمد في دينه ، و إما أن يقتلوا ذراريهم و يخرجوا جرائد فيقاتلوا حتى يقتلوا عن آخرهم أو يخلصوا فيصيبوا بعد الأولاد والنساء ، و إما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه يوم سبت حين يأمن المسلمون شرهم ، فأبوا عليه واحدة منهن . و كان قد دخل معهم في الحصن حيي بن أخطب حين انصرفت قريش ، لأنه كان أعطاهم عهداً بذلك حتى نقضوا العهد و جعلوا يسبون رسول الله صلى الله عليه و سلم و يسمعون أصحابه بذلك ، فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخاطبهم ، فقال له علي رضي الله عنه : لا تقرب منهم يا رسول الله ـ خشية أن يسمع منهم شيئاً ـ فقال : " لو قد رأوني لم يقولوا شيئاً " ، فلما رأوه لم يستطع منهم أحد أن يتكلم بشيء.
ثم بعث صلى الله عليه و سلم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي ، و كانوا حلفاء الأوس ، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون : رجالهم و نساؤهم ، و قالوا : يا أبا لبابة كيف ترى لنا ؟ أننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم فأشار بيده إلى حلقه ، يعني أنه الذبح ، ثم ندم على هذه الكلمة من وقته ، فقام مسرعاً فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاء مسجد المدينة فربط نفسه بسارية المسجد و حلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده ، و أنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك قال : " دعوه حتى يتوب الله عليه " و كان من أمره ما كان حتى تاب الله عليه رضي الله عنه .
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم . فأسلم ليلتئذ ثعلبة و أسيد ابنا سعية ، و أسد بن عبيد ، و هم نفر من بني هدل من بني عم قريظة و النضير ، و خرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي ، فانطلق ، فلم يعلم أين ذهب و كان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد .
و لما نزلوا على حكمه صلى الله عليه و سلم ، قالت الأوس : يا رسول الله ، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت و هم حلفاء إخوتنا الخزرج ، و هؤلاء موالينا ، فقال : " ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ " قالوا : بلا . قال : " فذاك إلى سعد بن معاذ " ، و كان سعد إذ ذاك قد أصابه جرح في أكحله ، و قد ضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم خيمةً في المسجد ، ليعوده من قريب ، فبعث إليه صلى الله عليه و سلم فجيء به و قد وطؤوا له على حمار ، و إخوته من الأوس حوله محيطون به ، و هم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فلما أكثروا عليه ، قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ! ! فرجع رجال من قومه إلى بني عبد الأشهل فنعوا إليهم بني قريظة ، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : " قوموا إلى سيدكم " فقام إليه المسلمون ، فقالوا : يا سعد ، قد ولاك رسول الله صلى الله عليه و سلم الحكم في بني قريظة ، فقال : عليكم بذلك عهد الله و ميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت ؟ قالوا : نعم . قال : و على من هاهنا ؟ و أشار إلى الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و هو معرض عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إجلالاً له ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " نعم " . فقال سعد : إني أحكم فيهم أن يقتل مقاتلتهم ، و تسبى ذراريهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " . فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتل من أنبت منهم ، و من لم يكن أنبت ترك ، فضرب أعناقهم في خنادق حفرت في سوق المدينة اليوم ، و كانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة ، و قيل : ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة ، و لم يقتل من النساء أحداً سوى امرأة واحدة و هي بنانة امرأة الحكم القرظي ، لأنها كانت طرحت على راس خلاد بن سويد رحى فقتلته لعنها الله . و قسم أموال بني قريظة على المسلمين للراجل سهم و للفارس ثلاثة أسهم ، و كان في المسلمين يومئذ ستة و ثلاثون فارساً .
و لما فرغ منهم استجاب الله دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ ، و ذلك أنه لما أصابه الجرح قال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها ، و إن كنت رفعت الحرب بيننا و بينهم فافجرها ، و لا تمتني حتى تشفيني من بني قريظة . و كان صلى الله عليه و سلم قد حسم جرحه فانفجر عليه فمات منه رضي الله عنه ، و شيعه رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون ، وهو الذي اهتز له عرش الرحمن فرحاً بقدوم روحه رضي الله عنه و أرضاه . و قد استشهد يوم الخندق و يوم قريظة نحو العشرة رضي الله عنهم آمين .